الى دمعة لاجئ عراقي .. والى سارة يوسف
بدا علاء هادئا و هو يشرح معاناته مع ابنه و اقتراب الكاميرا من وجه الأبن، أظهر قسمات بلا تعابير، التهمت النار جلده و لم تبق مساحة كافية للتعابير لكن حزنا عميقا اخترق الكاميرا من عينين بالكاد تركتهما النار، و عادت الكاميرا الى وجه علاء و الدموع تحاول تغييب قسمات وسيمة و قال "دافعت عن العراق لسنوات و جرحت لمرات و ما تزال اثار الجروح في كل مكان من جسمي و لكن" و لم تدعني دموعه ان اسمع بقية حديثه او شكواه.
سارة،
تابعت اللاجئين العراقيين، لكل دمعته و قصته و عتاب على بلد يرفض ابنائه الذين يقفون في طوابير امام سفارات الدول الغربية و مفوضية الأمم المتحدة علهم يجدون يدا تمسح دمعتهم بالرغم من يقينهم بأن اليد الغربية و يد الأمم المتحدة لم تمنعا بوش من غزو العراق و تدميره.
ليست ابنتك وحدها كبرت قبل اوانها، بل يولد اطفال العراق و هم متشبعين بالهم و اذكر بأن جامعات امريكية (قديرة) قررت بعد حرب 1991 اجراء ايحاث ميدانية على اطفال امريكا مخافة اصابتهم بأمراض نفسية لمشاهدتهم مشاهد قصف العراق في التلفزيون و لم يفكر العالم كله بأطفال العراق الذينعاشوا و يعيشون الحرب كل لحظة و يلسمون الموت فيها و لم يفكر العالم بالعراقي الذي جردته الحروب و الحصار الذي تخللها من شعوره الانساني و اصبح يعيش الموت الذي يحاصره، الموت في التلفزيون و في الشارع و في الأحاديث و الكتابات و الشعر، الموت اول ما يخطر ببال اي عراقي حين يرن هاتفه، يوما ما ستعاتبك ابنتك لآنك انجبتبها، كما اتوقع ان يفعل ابني الذي ولد في حرب و اصبح تلميذا في الابتدائية في حرب اخرى و صبيا في الحصار و جامعيا في حرب اخرى و خريجا تحت الاحتلال و الموت المجنون اليومي. سألني يوما عن سبب معاناة العراقيين و اجبته بأنه اختبار من الله سبحانه، و بسخرية علق "ماما ليش دا نبقى دور ثاني بالامتحان دائما و يستمر الاختبار" و قلت " مدا نرسب بس كلما تخلص مرحلة دراسية ندخل مرحلة اختباراتها تكون اصعب" و قبل ان اكمل كلامي كان قد قرر انهاء المناقشة و علق " ما اريد اخذ دكتوراه بالصبر"!
لا ادري ان كان العراق ام نحن العراقيون وضعنا احدنا الآخر في "ديوان المحنة". كان الخليفة المأمون يقضي على معارضيه من خلال "ديوان المحنة" الذي ابتكره، و على مدى تاريخه الحديث دخل العراقيون في ديوان المحنة و لم يخرجوا منه.
سارة
نتقابل و نتتحدث لساعات و لكن دائما نتحاشى حديث الموت، ربما لأننا اصبحنا لا نلتقي كثيرا كما كنا نفعل قبل الاحتلال و هروب العراق. كم كنت اكرهك احيانا، هل قلت لك بأني كرهتك يوما؟ ها أنا اقولها الآن، كنت اكرهك و انت لا يحلو لك دق باب شقتي الا حين احاول الهروب من نفسي الى النوم. كأنك كنت تشعرين احباطي في ذلك اليوم و تأتين لأعيش ذلك الاحباط بتفاصيله. اليوم اقسم لو تأتين في اية لحظة لن اكرهك، انما سأحبك اكثر لتحديك العوارض الكونكيريتية و اسوار المناطق و الاسلاك الشائكة و الخوف الدائم لتصلي الى باب شقتي و اعلمك بأني اصبحت لا أنام كثيرا لأنني افتقد الأحلام.
اسير في شوارع بغداد التي لم تعد بغداد.. دمار في كل مكان و نفايات و اسلاك شائكة تصطاد (اكياس النايلون) متحولة الى عمل فني بدائي و قاس بعبثيته. احاول ان ابتسم في وجه صبي غادر اللعب و الطفولة و يقف تحت الشمس الحارقة يبيع البنزين و كلما يقف سائق يركض نحوه حاملا (الجليكان ابو العشرين لتر)، يركض متعرجا لثقل حمولته و يطلب السائق عشرة لترات فقط و لا على الصبي سوى ان يخرج انبوب بلاستيكي ماصا طرفه ليصب العشرة لترات، كم لتر بنزين يشرف في الشهر؟ لا اعلم. سألت احمد، الصبي الذي نجح الى السادس الابتدائي و يبيع البنزين في طرف رصيف ما في بغداد ان كان البنزين يذهب الى جوفه و هو يحاول سحبه؟ و كان جوابه بالايجاب و قال بأن اول رشفة بنزين قبل عامين حرقت شفته و لثته لكنه تعود عليه الآن و علق شقيقه الأكبر بسخرية " خالة اكو ناس تدمن حبوب و تكبسل و احنا صرنا مدمني بنزين"! و ضحك بصوت عال وطلب من احمد ان يكمل عمله بسحب البنزين, و بلمح البصر بدأ رتل امريكي يمر في الشارع المقابل و بسرعة اختبأ احمد مع (جليكان البنزين) خلف السيارة. خجلا من تصرفه قال "خالة اذا شافوا الجليكانات يجون و يرشون البنزين بالشارع).. و لحقه شقيقه الأكبر " والله عيب عليك اطلع و كمل شغلك ولوا".. و استوقفتني كلمتا (يرشون) و ( ولوا).. ربما لا يعرف احمد ان كلمة (يرشون) تكون احلى مع ماء الورد و العطر و هذا امر لا يحسنه المحتلون، لكن شقيقه استخدم (ولوا) بمكانه تماما متمنيا ان (يولون على طول). احاول ان ابتسم و اتخيل بأنني ابتسمت و يفاجأني حزن وجهي و غضب قسماته في مرآة السيارة الأمامية. جميعا نسينا كيف تكون الابتسامة و اتذكر بأننا قد نكون الشعب الوحيد على الأرض الذي كان كلما ضحك استدرك ( اللهم اجعله خير). لا يوجد شعب يخاف ذاكرته الجمعية الضحك سوى العراقيين.. هل نحن اسوياء؟ يا له من سؤال! و هل هناك سوي يتحمل كل هذا الوجع؟
سارة، صديقتي التي احب
علاء العراقي اللاجئ الذي اختصر كل العراق بدمعة و سؤال
هل تذكران دفاتر المذكرات التي كنا نتبادلها و نحن صغار؟
لا أدري لماذا كان ذلك المثل الغبي يتردد دائما بذاكرة الطفولة ( اجمل ابتسامة تلك التي تشق طريقها وسط الدموع)؟ من كان يحاول تهيأتنا للوجع؟ و من حق الابتسامة الآن ان تضل طريقها لكثرة الدموع و الحواجز. و هل تذكران تلك (الحكمة) الساذجة و التي تكررت في كل صفحات دفاتر مذكراتنا (الذكرى ناقوس يدق في وادي النسيان).. مرة اخرى من كان يكرر مجاولات استعدادنا للفقدانات القادمة؟
انا تركت مراسلة اصدقائي و صديقاتي الذين غادروا العراق، لا أملك ان احدثهم سوى ان الألم الذي يتجول في الشوارع و الذي يشاهدونه قطعا في الأخبار بعد ان اصبح اصطياد صورة جثة عراقية و بقعة دم عراقية مهنة الكاميرات العربية و الأجنبية، و لا اريد ان ابادلهم حديث الذكريات. لقد سقطنا جميعا في وادي النسيان و نسينا ان نهيأ العالم لوادينا هذا و ان نكتب له على ورق وردي في دفتر مذكرات طفولته " ايها العالم القاسي الذكرى ناقوس يدق في وادي النسيان"، ترى من يتذكرنا؟